ماما عائشة المغربية.. المرأة التي ساندت “المنبوذات” وأبناءهن

ماما عائشة المغربية.. المرأة التي ساندت “المنبوذات” وأبناءهن

المرأة التي يناديها الناس بـ”ماما عائشة”، توفيت في مدينة الدار البيضاء عن عمر يناهز 81 عاما، بعد معاناة مريرة مع المرض، فراح المغاربة يستذكرون تلك المناضلة، بنبرتها صوتها الدافئة والقوية وهي تحدثهم لأكثر من ستة عقود عن كرامة المرأة، ووجوب احتضان النساء اللائي ينجبن خارج إطار الزواج، حتى لا يواجهن الضياع مع أبنائهن.

استهلت الشنا العمل المدني والخيري في سن مبكر، فلم تكن تتخطى 17 عاما، عندما انضمت إلى جمعية حماية الطفولة والعصبة المغربية لمحاربة داء السل الذي يوصف في العادة بـ”مرض الفقراء”، لأنه يكثر في الأوساط الأكثر تهميشا والأقل حظوة.

ولأن الأم عائشة حصلت على دبلوم من مدرسة التمريض سنة 1960، فقد عملت في عدد من مؤسسات الرعاية، وهذا القرب من المعاناة، جعلها قريبة من جس آلام الناس، والإنصات إلى أنينهم.

معركة صعبة

وإذا كانت عائشة قد أضحت رمزا إنسانيا في المغرب، حتى أن الملك محمد السادس أبدى تقديره للعمل الذي قامت به، فإن طريقها لم يكن معبدا منذ البداية، لأن كثيرين شنوا حملة ضدها.

قالت الراحلة إن كثيرين افتروا واتهموها بتشجيع الدعارة، بفعل دفاعها عن احتضان الأمهات اللائي يجدن أنفسهن حبالى بدون زواج، فيصبحن أمام هواجس انتقام الأهل، وتخلي الشريك، وضياع الجنين المقبل على الحياة.

لكن “ماما عائشة”، آمنت بأن الجنين الذي ينشأ عن علاقة خارج إطار الزواج، ليس مذنبا حتى يخضع لعقاب المجتمع، وبالتالي، فمن الإنصاف، أن يحظى ببيئة آمنة حتى لا يجري التخلي عنه، أو أن يقع في أيدي شبكات الاتجار في البشر.

لم ترضخ “ماما عائشة” لنظرة المجتمع، عندما كان كسر الطابوهات، مهمة بالغة التعقيد وذا فاتورة باهظة، ونقطة ارتكازها في هذه الصلابة، هي الإيمان بالإنسان وحقه في الحياة، بغض النظر عن ظروف إنجابه.

ربما يعتقد كثيرون أن “ماما عائشة” كانت منزاحة وبعيدة عن المجتمع، لكنها أكدت في إحدى المقابلات الصحفية، أنها تعرف العقليات والطبيعة التقليدية للناس، وبناء على ذلك، فالمطلوب، بحسب قولها، هو معالجة ظاهرة “الأمهات العازبات”، بما يراعي الأعراف، أي تفادي الحمل غير المروغوب فيه من الأصل.

ولذلك، تحذر “ماما عائشة”، الفتيات بشكل دؤوب من الوقوع في مأزق “حمل غير مرغوب فيه”، لأن الأمر يؤدي إلى إنهاء حياة ومستقبل كثيرات، لكن المرأة ليست المسؤولة الوحيدة، بحسب الراحلة، لأن الرجل شريك بدوره، وينبغي أن يتحمل المسؤولية.

في مراعاتها للنظام الاجتماعي وعادات الناس، تقول عائشة إنه حصل كثيرا أن رأت في الشارع نساء سبق أن استفدن من خدمات الجمعية، عندما أنجبن فيها، إثر حملهن خارج إطار الزواج، لكنهن أشحن بالوجه، ولم يبادرن بإلقاء التحية ولا الكلام “أنا أتفهم الأمر لأنني أذكرهن بيوم مظلم من حياتهن”.

وأضافت في مقابلة صحفية أنها أوصت موظفات الجمعية مرارا، بألا يتحدثن إلى النساء المستفيدات من خدمات الجمعية، في حال التقين بهن صدفة في الشارع بعد حين، والسبب هو أنهن بدأن حياة جديدة على الأرجح، وربما أنجبن، ولا يردن أبدا أن يأتي ما يذكرهن بمآس من الماضي.

شددت عائشة على أن بعض الجهات التي عملت مع الجمعية، طالبت أكثر من مرة بالحصول على بيانات الأمهات العازبات اللائي استفدن من الخدمات، لكنها رفضت بشكل قاطع، لأن التواصل مع أولئك النساء، في بعض الأحيان، قد ينكأ جراحهن، وربما يوقعهن في متاعب مع أسرهن.

تكريم وزهد

استطاعت عائشة أن تحقق وهجا محليا ودوليا، فنالت أكثر من جائزة وتكريم في مختلف دول العالم، إحداها بمليون دولار، لكن ما كان يصلها، انتهى به المطاف دوما في حساب الجمعية، حتى يكون مسخرا لأجل الخير والعطف على أطفال متخلى عنهم.

في هذه المسيرة، تعففت ماما عائشة على الدوام، فلم تكن تقبل أن تمد اليد، حتى وإن كانت تعرف أن الكثير من الأبواب ستفتح، فحينما أرادت أن تسافر إلى حفل تتويج في إحدى المرات، طلبت من ابنتها أن تحجز لها في درجة “الأعمال”، لأنها لا تستطيع ركوب الدرجة السياحية بسبب متاعبها الصحية الكثيرة.

قالت عائشة ذات مرة إنها وجدت نفسها في ضائقة مالية، إثر الإحالة على التقاعد من وظيفتها في قطاع الصحة، لأن صرف معاشها قد تأخر، وعندما، وصلها شيك لأجل فك الكربة المالية، سارعت في اليوم الموالي، إلى البنك، حتى يكون من حظ الأيتام.

أكدت عائشة أن من يخوض غمار العمل المدني والخيري عليه أن يفعل ذلك دون انتظار مقابل ولا صنع مجد شخصي “لو أردت المكاسب لترشحت للبرلمان وخضت غمار السياسة”.

بفضل هذا الزهد، عاشت “ماما عائشة”، بسيطة ومحبوبة وسط الناس، حيثما حلت في المغرب، بعدما نذرت حياتها لأجل أيتام ونساء ضعيفات، فيما كانت تحتفظ بأوجاعها وندوب حياتها لنفسها، وهي كثيرة التردد على الصيدليات والمستشفيات.

ولأن الموت صنو اليُتم، فالمرأة تترك يتامى من بعدها عندما ترحل عن الحياة، فذاك ما يحصل أيضا في حالة عائشة.

لكن يتامى عائشة يختلفون عددا، فهم كثيرون ممن ولدوا ونشؤوا في أحضان دافئة بفضل عمل الجمعية، وبعضهم اليوم في مسارات حياة ناجحة، والفضل في ذلك، يعود لامرأة رفضت وصمهم بـ”أبناء الحرام”، ووقفت إلى جانب أمهاتهم اللائي كن في مأزق لا يعرفن له حلا.

اترك تعليقاً